بسم الله الرحمن الرحيم
الملخص الفقهي - الجزء الأول
الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
باب في أحكام صلاة الجمعة
سميت بذلك لجمعها الخلق الكثير، ويومها أفضل أيام الأسبوع.
ففي "الصحيحين" وغيرهما: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع" .
وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلها، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فحاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة".
شرع اجتماع المسلمين فيه لتنبيههم على عظم نعمه الله عليهم، وشرعت فيه الخطبة لتذكيرهم بتلك النعمة، وحثهم على شكرها، وشرعت فيه صلاة الجمعة في وسط النهار؛ الاجتماع في المسجد واحد.
وأمر الله المؤمنين بحضور ذلك الاجتماع واستماع الخطبة وإقامة تلك الصلاة، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قال ابن القيم: "كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء؛ هل هو أفضل أم يوم عرفة ؟ هما وجهان لأصحاب الشافعي، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر بسورتي {الم تَنْزِيلُ} ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ} ".
إلى أن قال: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتها ما كان في يومها؛ فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليومتذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعا، ليست مقصودة المصلي قراءتها حيث اتفقت "يعني: من أي سورة".
ومن خصائص يوم الجمعة: استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة" ، رواه البيهقي.
ومن أعظم خصائص يوم الجمعة: صلاة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين، من تركها تهاونا بها؛ طبع الله على قلبه.
ومن خصائص يوم الجمعة: الأمر بالاغتسال فيه، وهو سنة مؤكدة، ومن العلماء من يوجبه مطلقا، ومنهم يوجبه في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها.
ومن خصائص يوم الجمعة: استحباب التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
ومن خصائص هذا اليوم:
استحباب التكبير للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، والاشتغال بالصلاة النافلة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة، ووجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها فإن لم ينصت للخطبة؛ كان لاغيا، ومن لغا؛ فلا جمعة له، وتحريم الكلام وقت الخطبة؛ ففي "المسند" مرفوعا: "والذي يقول لصاحبه: أنصت؛ فلا جمعة له".
ومن خصائص يوم الجمعة: قراءة سورة الكهف في يومه؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين" ، رواه الحاكم والبيهقي.
ومن خصائص يوم الجمعة: أن فيه ساعة الإجابة؛ ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبدمسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا؛ إلا أعطاه إياه " وقال بيده؛ يقللها"".
ومن خصائص يوم الجمعة: أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتذكير العباد.
وخصائص هذا اليوم كثيرة، ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، فأوصلها إلى ثلاث وثلاثين ومئة.
ومع هذا؛ يتساهل كثير من الناس في حق هذا اليوم، فلا يكون له مزية عندهم على غيره من الأيام، والبعض الآخر يجعل هذا اليوم وقتا للكسل والنوم، والبعض يضيعه باللهو واللعب والغفلة عن ذكر الله، حتى إنه لينقص عدد المصلين في المساجد في فجر ذلك اليوم نقصا ملحوظا. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ويستحب التكبر في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة، فإذا دخل المسجد؛ صلى تحية المسجد ركعتين.
وإن كان مبكرًا فأراد أن يتنفل بزيادة صلوات؛ فلا مانع من ذلك؛ لأن السلف كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام؛ لما في "الصحيح" منقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يصلي ماكتب له" ، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت، وهو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة؛ يصلون من حين يدخلون ما تيسر؛ فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ونهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا؛ كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد، والصلاة قبل الجمعة الأقوال، وحينئذ؛ فقد يكون الترك أفضل أو ترك؛ لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ؛ فقد يكون الترك أفضل، إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة" اه.
وهذا ما يتعلق بصلاة النافلة قبل صلاة الجمعة؛ فليس لها راتبة قبلها، وإنما راتبتها بعدها؛ ففي "صحيح مسلم": "إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليصل بعدها أربع ركعات"، وفي "الصحيحين": "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين" ، والجمع بين الحديثين أنه إن صلى في بيته؛ صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد؛ صلى أربع ركعات،وإن شاء صلى ست ركعات؛ لقول ابن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة؛ تقدم فصلى ركعتين، ثم يقدم فصلى أربعا".
والأحقية في المكان في المسجد للسابق بالحضور بنفسه، وأما ما يفعله الناس من حجز مكان في المسجد، توضع سجادة أو عصا أو نعلان، ويتأخر هو عن الحضور، ويحرم المتقدم من ذلك المكان؛ فإن ذلك عمل غير سائغ، بل صرح بعض العلماء أم لمن أتى المسجد رفع ما وضع ذلك المكان والصلاة فيه؛ لأن السابق يستحق الصلاة في الصف الأول، ولأن وضع الحمى للمكان في المسجد دون حضور من الشخص اغتصاب للمكان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما ما يفعله كثير من الناس من تقدم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم؛ فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل محرم،
وهل تصح صلاة على ذلك المفرش ؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في المكان، والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو؛ فقد خالف الشريعة من جهتين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين له، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى رقاب الناس إذا حضروا" اهـ.
ومن أحكام الجمعة: أن من دخل المسجد والإمام يخطب؛ لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام؛ فليصل ركعتين" ، متفق عليه، زاد مسلم: "وليتجوز فيهما"؛ أي: يسرع. فإن جلس؛ قام فأتى بهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس قبل أن يصليهما؛ فقال له: "قم فاركع ركعتين".
ومن أحكام صلاة الجمعة أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب:
لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
قال بعض المفسرين: "إنها نزلت في الخطبة، وسميت قرآنا؛ لاشتمالها على القرآن"، وحتى على القول الآخر بأن الآية نزلت في الصلاة؛ فإنها تشمل بعمومها الخطبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال صه؛ فقد لغا، فلا جمعة له" ، رواه أحمد
وفي الحديث الآخر: "من تكلم؛ فهو كالحمار يحمل أسفارًا،والذي يقول له: أنصت؛ ليست له جمعة"، والمراد له كاملة.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب؛ فقد لغوت" ؛ أي: قلت اللغو، واللغو الإثم، فإذا كان الذي يقول للمتكلم: أنصت وهو في الأصل يأمر بمعروف، قد لغا، وهو منهي عن ذلك؛ فغير ذلك من الكلام من باب أولى.
ويجوز للإمام أن يكلم بعض المأمومين حال الخطبة، ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سائلاً، وكلمه هو، وتكرر ذلك في عدة وقائع كلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وكلموه حال الخطبة فيما فيه مصلحة وتعلم، ولأن ذلك لا يشغل عن سماع الخطبة.
ولا يجوز لمن يستمع الخطبة أن يتصدق على السائل وقت الخطبة، لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله؛ فلا يعينه على ما لا يجوز، وهو الكلام حال الخطبة.
وتسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب، ولا يرفع صوته بها؛ لئلا يشغل غيره بها.
ويسن أن يؤمّن على دعاء الخطيب بلا رفع صوت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "ورفع الصوت قدام الخطيب مكروه أو محرم اتفاقا، ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاة ولا غيرها" اه.
ويلاحظ أن هذا الذي نبه عليه الشيخ لا يزال موجودًا في بعض الأمصار؛ من رفع الصوت بالصلاة على الرسول أو غير ذلك من الأدعية حال الخطبة أو قبلها أو بين الخطبتين، وربما أن بعض الخطباء يأمر الحاضرين بذلك، وهذا جهل وابتداع لا يجوز فعله.
ومن دخل والإمام يخطب فإنه لا يسلِّم، بل ينتهي إلى الصف بسكينة، ويصلي ركعتين خفيفتين كما سبق، ويجلس لاستماع الخطبة، ولا يصافح من بجانبه. ولا يجوز له العبث حال الخطبة بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مس الحصا؛ فقد لغا ومن لغا؛ فلا جمعة له" ، صححه الترمذي، ولأن العبث يمنع الخشوع.
وكذلك لا ينبغي له أن يتلفت يمينا وشمالاً، ويشتغل بالنظر إلى الناس، أو غير ذلك؛ لأن ذلك يشغله عن الاستماع للخطبة، ولكن ليتجهإلى الخطيب كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة.
وإذا عطس؛ فإنه يحمد الله سرًا بينه وبين نفسه.
ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وإذا جلس الإمام بين الخطبتين لمصلحة، لكن لا ينبغي التحدث بأمور الدنيا.
وبالجملة، فخطبتا الجمعة لهما أهمية عظيمة في الإسلام؛ لما تشتملان عليه من تلاوة القرآن وذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضمنها التوجيهات النافعة والموعظة الحسنة والتذكير بأيام الله؛ فيجب الاهتمام بهما من قبل الخطيب ومن قبل المستمعين؛ فليست خطبة الجمعة مجرد حديث عادي كالأحاديث التي تلقى في النوادي والاحتفالات والاجتماعات العادية.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن بعض المستمعين لخطبتي الجمعة يرفع صوته بالتعوذ عندما يسمع شيئا من الوعيد في الخطبة، أو يرفع صوته بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئا من ذكر الثواب أو الجنة، وهذا شيء لا يجوز، وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة.
وقد دلت النصوص على أن الكلام حال الخطبة يفسد الأجر، وأن المتكلم لا جمعة له، وأنه كالحمار يحمل أسفارًا؛ فيجب الحذر من ذلك والتحذير منه.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن صلاة الجمعة فرض مستقل، ليست بدلاً من الظهر.
قال عمر رضي الله عنه: "صلاة الجمعة ركعتين، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم".
وذلك لأنها تخالف صلاة الظهر في أحكام كثيرة، وهي أفضل من صلاة الظهر، وآكد منها؛ لأنه ورد على تركها زيادة تهديد، ولأن لها شروطا وخصائص ليست لصلاة الظهر، ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه ما لم يخرج وقتها؛ فصلاة الظهر حينئذ تكون بدلاً عنها.
وصلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم ذكر حر مكلف مستوطن:
روى أو داود بسنده عن طارق بن شهاب مرفوعا: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة؛ إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" ، إسناده ثقات، وصححه غير واحد.
وروى الدارقطني بسنده عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فعليه الجمعة يوم الجمعة؛ إلا مريضا، أو مسافرًا، أو صبيا، أو مملوكا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل قوم مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا، تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك؛ فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، وإنما الأصل أن يكونوا مستوطنين، ليسوا كأهل الخيام والحلل، الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا" انتهى.
ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر.
ومن خرج إلى البر في نزهة أو غيرها، ولم يكن حوله مسجد تقام فيه الجمعة؛ فلا جمعة عليه، ويصلي ظهرًا.
ولا تجب على امرأة.
قال ابن المنذر وغيره: "أجمعوا أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة؛ أن ذلك يجزئ عنهن، وكذلك إذا حضرها المسافر؛ أجزأته، وكذلك المريض؛ لأن إسقاطها عن هؤلاء للتخفيف عنهم، ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة في يومها بعد زوال الشمس حتى يصليها، وقبل الزوال يكره السفر إن لم يكن سيصليها في طريقه".
ويشترط لصحة الجمعة:
1 دخول الوقت؛ لأنها صلاة مفروضة؛ فاشترط لها دخول الوقت كبقية الصلوات؛ فلا تصح قبل وقتها ولا بعده؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ، وأداؤها بعد الزوال أفضل وأحوط؛ لأنه الوقت الذي كان يصليها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته، وأداؤها قبل الزوال محل خلاف بين العلماء، وآخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر؛ فلا خلاف.
2 أن يكون المصلون مستوطنين بمساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به؛ فلا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعر الذي ينتجعون في الغالب مواطن القطر وينقلون بيوتهم؛ فقد كانت العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة.
ومن أدرك مع الإمام من صلاة الجمعة ركعة؛ أتمها جمعة؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: "ومن أدرك ركعة من الجمعة؛ فقد أدرك الصلاة" ، رواه البيهقي، وأصله في "الصحيحين".
وإن أدرك أقل من ركعة؛ بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية قبل دخوله معه؛ فاتته صلاة الجمعة، فيدخل معه بنية الظهر، فإذا سلم الإمام؛ أتمها ظهرًا.
3 ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، وقال ابن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس"، متفق عليه.
ومن شروط صحتهما: حمد الله، والشهادتان والصلاة على رسوله، والوصية بتقوى الله، والموعظة وقراءة شيء من القرآن، ولو آية، بخلاف ما عليه خطب المعاصرين اليوم، من خلوها من هذه الشروط أو غالبها.
قال الإمام ابن القيم: "ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه؛ وجدها كافية ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقهن وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه؛ فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثم طال العهد، وخفى نور النبوة وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعواالخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها".
هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف حتى صار الغالب على الخطب اليوم أنها حشو من الكلام قليل الفائدة.
فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي، يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة تطويلاً مملاً حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها، ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية، فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة.
وبعض الخطباء يقحم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها، وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام، وقد لا يفهما غالب الحضور؛ لأنها أرفع من مستواهم، فيدخلون فيها المواضيع الصحفية والأوضاع السياسية وسرد المجريات التي لا يستفيد منها الحاضرون.
فيا أيها الخطباء! عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} ، ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام، ضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة، عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب ونور البصائر.
إنه ليس المقصود وجود خطبتين فقط، بل المقصود أثرهما في المجتمع، كما قل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت؛ لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفا بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير، وذم الدنيا والتحذير منها مما تواصى به منكروا الشرائع، بل لا بد من الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، والدعوة إلى الله، والتذكير بآلائه"، وقال: "ولا تحصل الخطبة باختصار يفوت به المقصود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم" اه.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يسن في خطبتي الجمعة أن يخطب على منبر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك أبلغ في الوعظ حينما يشاهد الحضور الخطيب أمامهم.
قال النووي رحمه الله: "واتخاذه سنة مجمع عليها".
ويسن أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا اقبل عليهم؛ لقول جابر: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر؛ سلم" ، رواه ابن ماجه وله شواهد.
ويسن أن يجلس على المنبر إلى فراغ المؤذن؛ لقول ابن عمر: "كان رسوله الله صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب" رواه أبو داود.
ومن سنن خطبتي الجمعة: أن يجلس بينهما؛ لحديث أبن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس" ، متفق عليه.
ومن سننهما: أن يخطب قائما؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ، وعمل المسلمين عليه.
ويسن أن يعتمد على عصا ونحوه.
ويسن أن يقصد تلقاء وجهه؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر ومخالفة للسنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تلقاء وجهه في الخطبة، ويستقبله الحاضرون بوجوههم؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إذا استوى على المنبر؛ استقبلناه بوجوهنا" ، رواه الترمذي.
ويسن أن يقصر الخطبة تقصيرًا معتدلاً؛ بحيث لا يملوا وتنفر نفوسهم، ولا يقصرها تقصيرًا مخلاً؛ فلا يستفيدون منها؛ فقد روى الإمام مسلم عن عمار مرفوعا: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة"، ومعنى قوله: "مئنة من فقه"؛ أي: علامة على فقههويسن أن يرفع صوته بها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب؛ علا صوته، واشتد غضبه، لأن ذلك أوقع في النفوس، وأبلغ في الوعظ، وأن يلقيها بعبارات واضحة قوية مؤثرة وبعبارات جزلة.
ويسن أن يدعو للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ويدعو لإمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق، وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفا عند المسلمين، وعليه عملهم؛ لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح من منهج أهل السنة والجماعة، وتركه من منهج المبتدعة، قال الإمام أحمد: "لو كان لنا دعوة مستجابة؛ لدعونا بها للسلطان"، ولأن في صلاحه صلاح المسلمين.
وقد تركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور ويسيئون الظن بمن يفعله.
ويسن إذا فرغ من الخطبتين أن تقام الصلاة مباشرة، وأن يشرع في الصلاة من غير فصل طويل.
وصلاة الجمعة ركعتين بالإجماع يجهر فيها بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى منهما بسورة الجمعة بعد الفاتحة، ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة بسورة المنافقين؛ لأنهصلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما؛ كما رواه مسلم عن ابن عباس، أو يقرأ في الأولى ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي الثانية ب {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُالْغَاشِيَةِ} ؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أحيانا بالجمعة والمنافقين، وأحيانا ب {سَبِّحِ} و {الْغَاشِيَةِ} ، ولا يقسم سورة واحدة من هذه السور بين الركعتين؛ أن ذلك خلاف السنة.
والحكمة في الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة كون ذلك أبلغ في تحصيل المقصود.